بقلم: أسامة صالح
ليست الخرطوم اليوم مجرد مدينة تتلمّس الطريق وسط ركام حرب طويلة؛ إنها مدينة تحاول أن تتذكّر نفسها. تحاول أن تستعيد ملامحها التي ضاعت بين الفوضى والعتمة، وأن تسترجع نبضها الذي انقطع تحت ضجيج البنادق. وما نشهده الآن من حراك أمني وإداري منسّق ليس مجرد تدابير عابرة، بل هو خطوة أولى في رحلة شاقة نحو استعادة الذاكرة… ذاكرة مدينة كانت جميلة، هادئة، ونظيفة، ثم وجدت نفسها على غير ما كانت.
اللافت أن ما تقوم به اللجنة الأمنية بمحلية الخرطوم ليس عملاً ارتجالياً، ولا رد فعل مؤقتاً لواقع منفلت، بل منظومة عمليات متتابعة تحمل رؤية واضحة: إعادة الانضباط للعاصمة، وفرض هيبة الدولة في شارع اعتاد أن يسمع وصايا القانون دون أن يراها. من هنا كانت القرارات ذات أثر يتجاوز حدود الورق، لتتحول إلى حضور فعلي في الميدان.
من حظر التجوال الليلي، إلى ضبط السيارات بلا لوحات، إلى تنظيم الأسواق والمواقف، وصولاً إلى ملاحقة الخلايا الإجرامية ومنع الأنشطة المشبوهة… هي سلسلة إجراءات لا يمكن اختزالها في كونها “حملات أمنية”. إنها أشبه بخيط نور يشق طريقه بين غيوم كثيفة، يذكّر الخرطوم أن العودة ممكنة، وأن استعادة ملامح المدن تبدأ من التفاصيل: من الطرق التي تُفتح، والمخالفات التي تزال، والوجوه التي تُطمئن.
ومع ذلك، فإن أعظم ما يحسب لهذا الحراك أنه لم يعتمد على القوة وحدها. اللجنة اختارت أن تخاطب وعي الناس قبل أن تخاطب سلوكهم. حذّرت من مخاطر الحرق العشوائي، ونبّهت لضرورة التحقق من مستندات المركبات، ودعت للتعاون في ضبط الوجود غير القانوني. في بلد يعاني ما تعانيه، يصبح الأمن مسؤولية مشتركة لا تنتجها الدوريات وحدها، بل ينتجها إدراك المواطن بأن دوره لا يقلّ عن دور الجندي في حفظ المدينة.
وفي كل ذلك، تعود إلى الذاكرة خرطوم أخرى… خرطوم كانت تهدأ مع الغروب، وتنتظم مع الفجر، وتضع سلوك الناس في إطار من الانضباط الطبيعي. الخرطوم التي عرفناها كانت مدينة حيّة، لكنها أيضاً مدينة منسجمة مع القانون. هذه الصورة القديمة ليست nostalgia فارغة، بل مرآة يمكن أن نستعيد انعكاسنا فيها، إذا استمر هذا الإصرار على إصلاح ما كُسر.
وإذا كانت العاصمة قد تعثرت لسنوات، فهي اليوم تحاول الوقوف ببطء، بعزيمة من أنهكتهم الحرب لكن لم تهزمهم. المدن العظيمة لا تسقط دفعة واحدة، ولا تنهض دفعة واحدة، بل تستعيد نفسها طبقة فوق طبقة، وذاكرة فوق ذاكرة.
الخرطوم الآن في بدايات رحلة طويلة، لكنها بداية تبعث على الأمل: ارتكازات أمنية تعمل، قرارات تُنفَّذ، أسواق تنظَّم، حدود تُضبط، وخلايا تُفكَّك. الأهم من كل ذلك هو الروح الجديدة التي بدأت تتشكل… روح تؤمن أن النظام ليس قيداً، بل حماية، وأن الانضباط ليس تجبراً، بل حفاظ على ما تبقى لنا من مدن.
ما تحتاجه الخرطوم ليس معجزة، ولا طفرة خاطفة، بل الاستمرار. استمرار الجهد، واستمرار اليقظة، واستمرار العمل بصمت وإصرار. فالمدن، مثل البشر، تتعافى حين تجد من يحبها بصدق… ومن يعمل لأجلها دون ضجيج.
وحين تستعيد الخرطوم ذاكرتها، ستعود كما كانت: مدينة تضبط إيقاعها، وتستعيد بريقها، وتمنح أبناءها شيئاً من الطمأنينة التي افتقدوها طويلاً.
صوت مصر